لم يكن سائق الأجرة الذي ركبت معه البارحة يدري ما فعله تشغيله لبعض الأغنيات، و التي هي بالطبع من وجهة نظره لا تتعدى كونها للتسلية، و ترويح عن النفس يلهيها عن التفكير في الطريق و ملله، و لكن في عقلى لم يكن الأمر بهذه البساطة، فلكل أغنية قام السائق بتشغيلها صداها في عقلي و ذاكرتي، ما بين حنين لذكرى و حنين لأخرى محفورة و متربعة .
النهاردة فرحي يا جدعان و ابتسامة حنين
كانت أغنية المطرب الجديد حينها سعد الصغير أيقونة كل عرس و زفاف، بل إنني أذكر أنها صارت طقساً يلي كتب الكتاب مباشرة لنشر بهجة العرس، و “أدي الزين و أدي الزينة” لتصوير الكاسات أثناء شرب العروسين من أيدي بعضهما، و بالطبع أول الفرح يجب أن تسمع الفنان هشام عباس و رائعته أسماء الله الحسنى، كل تلك المظاهر ارتبطت في ذاكرتي بالأعراس و الزفاف، و أصبح مجرد سماعها يرسم على شفتي بسمة حنين غالية، بسمة تعيدني إلى طفولتي، و هذه الأفراح التي أخذت هذا الطابع، و هذا ما فعله السائق حينما شغل “النهاردة فرحي يا جدعان”، فلقد ذكرني ذلك الأمر بمشهد جلوسي بجوار رجل “الدي چي”، أحاول أن ألمس لوحة مفاتيح جهاز الحاسب الآلي الخاص به، لاستكشفها أكثر، و هو يحميها منا بضراوة و شراسة بالغة، كيف لا و الحاسوب لم يكن منتشراً كثيراً يومها، إلا لدى علية القوم أو الشركات و “الدي چي” و غيرها، تذكرت كيف تخلص من إصراري على استكشاف عدته و عهدته من الآلات بجعلي أمسك الميكروفون لأقول فيه بعض الكلمات، كيف أحسست حينها بالانتصار، كل ذلك دار في ذاكرتي مع أغنية سعد الصغير التي شغلها السائق .
دموع حمادة هلال و أنين الذاكرة
بالطبع لم يدرك الفنان حمادة هلال أن أغنيته “ديمًا دموع” ستفعل بذاكرتي الأفاعيل، فبمجرد تشغيل السائق لها أحسست بغصة في قلبي، و هبطت علي ذاكرتي بمشاهدي الطفولية، و أنا أسمع الفنان يشدو بصوته الجميل، و بتأثره البالغ الذي تخيلته ببراءة الطفل بكاءً حقيقياً شديداً، و بكيت معه بشكل تلقائي، و لم تكن والدتي حينها تعلم أن السبب في الأمر هو صوت حمادة هلال الذي تخيلته متأثراً لحد كبير، و سألت نفسي حينها”لماذا يبكي هكذا؟!”، “هل اعترضه أحد ما بأذى؟! “، و بعقلية طفل حينها انطبع في داخلي ذلك الأمر دون أن أدري، و قد علق ذلك كله في ذاكرتي، و أدركت أن الأمر ليس بسهولة النسيان، حينما سمعت نفس الأغنية الآن في عشريناتي، و انتابني نفس ذلك الشعور، و كأنني مازلت طفلاً، و كأنني لم أكبر بعد، الغريب أنني كشاعر أعلم دهاليز الأمر، و أن الفنان يمكن أن يبدي تأثراً بالغاً كي يقنع المتلقي، و لكنني مستمر في الشعور بنفس الاحساس و التعاطف عند سماعي حمادة هلال و أغنية دموع، و كأنني أسمعها لأول مرة !!
سهرانة طول الليل و مشاعر الطفولة
و لعل ضغط السائق دون أن يشعر على مفاتيح الحنين و الأنين لم تتوقف، و ها هي أغنية “سهرانة طول الليل” تعلن بموسيقاها الدخول في المشهد، فبالرغم من صعوبة كلماتها إلا أنها ذات رونق خاص، فلقد كانت هذه الأغنية مرتبطة بأول مشاعر عاطفية لي، فأول فتاة أشعر بداخلي بانجذاب لها، و أعرف من خلالها الهيام و هذه الأشياء، علقت ذكراها بهذه الأغنية، و التي سمعتها بالصدفة في الكاست الذي في بيت جدي، و كانت خالتي قد وضعت الشريط ليدور بداخل الكاست، و لا تعلم أن قلبي يدور مع الشريط، فتخيلت أن هذه الفتاة التي كانت معي في الفصل نفسه “سهرانة طول الليل”و”سرحانة في أمري”، رغم أنني أكاد أجزم أنها كانت تلعب الغميضة هنا أو هناك، ولا تدري عن هيامي ذلك شيئاً، و لكن على أي حال علقت هذه الأغنية في ذاكرتي، و قمت بربطها بذلك المشهد، و أصبحت سهرانة طول الليل ايقونة المشاعر الأولى و الحب العذري ذو البراءة المطلقة بالنسبة لي.
و ختامًا استطيع القول أنه ربما يستخف بعضهم بتلك التفاصيل، و ربما يعتقد أنني أبالغ في بعضها، و لكنها و على العكس تمامًا حقيقية بأحداثها و مشاعرها، و برغم أن السائق أغلق المسجل مع اقتراب نزولي من السيارة، إلا أن أنين ذكرياتي و حنينها لا ينفذ، و ظل يدور و يدور معلناً أن للكثيرين مثلي ذاكرة غنائية خصبة، قاموا بربطها ببراعة بأحداث خاصة بهم .